العلامة السيد كمال الحيدري · 1.225 من المشتركين
منذ 17 ساعة ·
محبة أهل البيت عليهم السلام
من الواضح بأن متابعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله فيما جاء به من الشريعة السمحاء ضرورة أساسية، وأنّ هذه المتابعة كاشف إنّيّ عن حبّ العبد لمولاه، وشرط حتميّ لمحبوبية المولى للعبد.
ومن الواضح أيضا بأنّ متابعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله تعني الالتزام بأقواله وأفعاله التي منها أوامره المتتابعة بالتمسّك بالعترة الطاهرة، وبذلك خلص لدينا أنّ متابعة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ومحبّتهم جميعاً كاشف عن الحبّ الحقيقيّ الذي يحمله العبد لمولاه وأنّ تلك المتابعة والمحبّة موجبة لتحقّق محبوبية المولى للعبد.
والآن نريد أن نقف قليلاً عند حقيقة هذا الحبّ وكيفية ترجمته. بعبارة أخرى: لماذا هذا الحبّ؟ وأيّ درجة منه تُطلب من المحبّ؟
تقدّم منّا أنّ الإنسان خُلق مفطوراً على حبّ الكمال والسعي لاكتسابه، وأنّ هذا الحبّ يمثّل درجة شديدة في وجوده، فهو أمرٌ وجوديّ ذاتيّ شديد فلا يحتاج إلى تعليل؛ لأنّ الذاتي لا يُعلّل، والسؤال عنه هو بعينه سؤال عن أصل وجوده.
وفي ضوء ذلك يتبيّن لنا أنّ جميع الموارد والمواطن الكمالية ـ سواء كانت مُلكية أو ملكوتية1، إنسية أو ملائكية ـ تقع هدفاً أمام سير الإنسان التكاملي، يتزوّد بحسب مراتبها للوصول إلى الغاية العُليا وهي الكمال المطلق، إذا أضفنا إلى ذلك أنّ الإنسان بحدّ ذاته هو مظهر من مظاهر أسماء الله الحُسنى حيث تجلّت فيه القدرة الإلهية والعلم والحياة والإبداع وغير ذلك.
ولاشكّ أنّ الإنسان كلّما حاز كمالات أكثر وبمراتب أعلى وأشدّ وأكبر، فإنّ مظهرية الأسماء الحسنى فيه تشتدّ، والعكس بالعكس.
ولاشكّ أنّ كلّ إنسان حائز على كمالات يكون محلّ جذب واستقطاب الآخرين له، هذا فضلاً عمّن حاز كمالات أكثر وأشدّ وأكبر، فكيف بمن خلت ساحته من أيّ قصور أو نقص سوى الفقر إلى الله تعالى، فلا ريب أنّه سوف يكون قطب الرُّحى والنقطة الفريدة في مركز دائرة عالم الإمكان، وهو الجوهر المنظور إليه من جميع أفلاك عالم الإمكان.
فإذا تعيّن لنا ـ كما هو ثابت في محلّه ـ أنّ أهل البيت عليهم السلام هم المصداق الأوّل والأشدّ لكلّ ما تقدّم، وأنّهم حازوا كلّ الكمالات الوجودية السامية، وأنّهم الأقرب إلى الكمال المطلق، والفاقدون لكلّ مفقود سوى الفقر للغنيّ الفاقد لكلّ مفقود2، ومن ينحدر عنهم السيل ولا يرقى إليهم الطير3, عُلم أنّ متابعة ومحبّة أهل البيت عليهم السلام قضية فُطر الناس عليها، فالمتمسّك بهم والداعي لهم يكون عاملاً في ضوء فطرته الأولى.
وهكذا يتّضح لنا سبب حبّ أهل البيت عليهم السلام وأنّه أمرٌ وجوديّ فينا تبعاً لحبّ الكمال المتّصل بهم، وعندئذ ينقطع السؤال عن سبب هذه المحبّة كانقطاعه عن أصل طلب الكمال وحبّه.
في ضوء ذلك سوف تنفتح أمامنا أسرار كثيرة وطلاسم4 وفيرة لعلّ من أبرزها اشتراط الإقرار بالنبوّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله والإمامة لعليّ وأهل بيته عليهم السلام على سائر الأنبياء السابقين والالتزام بولايتهم كما جاء في الأخبار المستفيضة5.
وهكذا سوف نعرف وجهاً آخر للحديث النبوي المعتبر (يا عليّ أنت قسيم النار تقول هذا لي وهذا لك)6، وفي رواية أخرى: (أنتَ قسيم الجنّة والنار، في يوم القيامة تقول للنار: هذا لي وهذا لك)7.
فهو الكمال المأمول، من بلغه كان نصيبه الجنّة، فطوبى لمن تمسّك بركبه وسار على نهجه وذلك هو الفوز العظيم، والبؤس والحسرات لمن ضاقت نفسه وعجزت عن إراءة ذلك الكمال السامي لنفسه، ولم يتّبع ما أنزل إليه من ربِّه، فأولئك (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَـهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ)8، وأيّ حسرات تلك! إنّها حسرات تتحطّم على جنباتها جبال الأرض وتلتهب منها نيران جهنّم على ما فرّط به وما أبداه من سخرية واستهزاء، (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)9، وهنالك يفرح المؤمنون ويخسر المبطلون.
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: (أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله)10، وعن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في قول الله عزّ وجلّ: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)، قال: (جنب الله: أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم)11.
وربّ قائل يقول: إذا كانت محبّة أهل البيت عليهم السلام أمراً فطريّاً فُطر عليه الإنسان في أصل وجوده، فلماذا نرى أعداءهم كثيرين قد امتلأت بهم صفحات التأريخ؟
والجواب هو أنّ الإنسان قد تُرك له الخيار في الحياة الدُّنيا في تحديد من يتولاّهم أو يتبرّأ منهم، وهذا لا ينافي فطرية أصل الشيء كما هو الحال في معرفة الله تعالى وتوحيده، فإنّ الله تعالى قد خلق الخلق مفطورين على معرفته وتوحيده، ولكنّنا مع ذلك نجد أنّ نسبة الملحدين والمشركين في الأرض من مجموع سكّانها ليست قليلة12، ولا ريب أنّهم قد اعتقدوا وعملوا وفق إرادتهم الشخصية واختيارهم خلافاً لما فطروا عليه.
وقد تقدّم منّا أنّه لا منافاة بين فطرية الشيء واختيار الفاعل لغيره، وفي ذلك أمثلة كثيرة لا يسع المقام لذكرها ونكتفي بما تقدّم من مثال معرفة الله وتوحيده.
____________________________
(1) أي سواء كانت من عالم الملك أو الملكوت، والملك هو عالم الشهادة والمادّة والحسّ، والملكوت هو عالم الغيب، انظر: لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، مصدر سابق: ص551.
(2) جاء في بعض الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام: (وشاهد كلّ مشهود، ومُوجد كلّ موجود، ومُحصي كلّ معدود، وفاقد كلّ مفقود، ليس دونك من معبود…).
انظر: مصباح المتهجّد لشيخ الطائفة الطوسي، نشر مؤسّسة فقه الشيعة، الطبعة الأولى، 1411هـ، بيروت: ص804.
(3) جاء في الخطبة الشقشقية لأمير المؤمنين عليه السلام: (ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليَّ الطير…). نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده: ج1 ص31.
(4) جمع طلسم، وهو اسم للسرّ المكتوم. انظر: تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمّد مرتضى الزبيدي، نشر مكتبة الحياة، بيروت: ج8 ص381.
(5) قال الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله يوم أسري به: (أتاني ملك فقال لي: يا محمّد، سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بُعثوا؟ قلت: على ما بُعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب ). انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400هـ : ص96.وأيضاً: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، طبع مكتبة الحيدرية، 1956م، النجف الأشرف: ج1 = = ص247؛ مئة منقبة من مناقب أمير المؤمنين، للشيخ محمّد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمّي، نشر وتحقيق مدرسة الإمام الهادي، الطبعة الأولى، 1407 هـ ، قم: ص150؛ كنز الفوائد للكراجكي، نشر مكتبة المصطفوي، الطبعة الأولى، قم: ص258؛ الصراط المستقيم لعليّ بن يونس العاملي، تحقيق محمد باقر البهبودي، نشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، الطبعة الأولى، 1384 هـ: ج2 ص240؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلّي، نشر المطبعة الحيدرية، الطبعة الأولى، 1951م، النجف الأشرف: ص125؛ الاستنصار لأبي الفتح الكراجكي، نشر دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1405 هـ، بيروت: ص36؛ بحار الأنوار، مصدر سابق: ج15 ص247، ج18 ص297، ج26 ص301- 307، 318؛ الغدير للأميني، مصدر سابق: ج1 ص388؛ مناقب الخوارزمي، مصدر سابق: ص312؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني، تحقيق محمد باقر البهبودي، نشر مجمع إحياء التراث الإسلامي، إيران: ج2 ص223؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، تحقيق علي شيري، نشر دار الفكر، 1415 هـ، بيروت: ج42 ص241؛ بشارة المصطفى لمحمّد بن علي الطبري، تحقيق جواد القيّومي، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1420 هـ، قم: ص311، وكتب أخرى يطول المقام بذكرها.
(6) تفسير القمّي لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمّي، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثالثة، 1404هـ، قم: ج2 ص389.
(7) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر شركة الطباعة الفنّية المتّحدة، 1965م، القاهرة: ص75.
جدير بالذكر أنّ هذا الحديث النبويّ الشريف ورد بشكل مستفيض في كتب الفريقين، ولشهرته يقول ابن أبي الحديد: (فقد جاء في حقّه الخبر الشائع المستفيض أنّه قسيم النار والجنّة، وذكر أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين: إنّ قوماً من أئمّة =
= العربية فسّروه فقالوا: لأنّه لمّا كان محبّه من أهل الجنّة ومبغضه من أهل النار، كان بهذا الاعتبار قسيم النار والجنّة. قال أبو عبيد: وقال غير هؤلاء: بل هو قسيمهما بنفسه في الحقيقة، يُدخل قوماً إلى الجنّة وقوماً إلى النار، وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه؛ يقول للنار: هذا لي فدعيهِ، وهذا لكِ فخذيه). نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد، مصدر سابق: ج9 ص165.
وقد سُئل أحمد بن حنبل عن الحديث (يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليّاً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد: وما تنكرون من هذا الحديث؟ أليس روينا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: (يا عليّ! لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق؟) قلنا: بلى، قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة، قال: فأين المنافق؟ قلنا: في النار، قال: فعليّ قسيم النار. انظر: الغدير، مصدر سابق: ج3 ص299.
ولشهرة هذا الحديث النبويّ، جاء في الأذكار والأدعية والزيارات والأشعار، حتّى اشتهر على الألسن بيتان من الشعر منسوبان للإمام الشافعي، حيث كان ينشد قائلاً:
علي حُبّه جُنّة قسيم النار والجنّة وصيّ المصطفى حقّاً إمام الإنس والجِنّة
انظر: ينابيع المودّة للحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، منشورات الشريف الرضيّ، الطبعة الثانية، 1417هـ، قم: ص98، علماً أنّ الحافظ القندوزي قد عقد باباً مستقلاًّ لهذا الحديث في كتابه هذا حيث بيّن فيه أنّ عليّاً عليه السلام هو قسيم النار والجنّة.
ورحم الله تعالى نقيب الطالبيين الشريف الرضي حيث كان يقول:
قسيم النـار جـدّي يـوم يـلفى به باب النجاة من الـعذابِ
وساقي الخلق والمهجات حرّى وفاتحة الصراط إلى الحسابِ
انظر: حقائق التأويل في متشابه التنزيل للشريف الرضي، شرح محمد الرضا آل كاشف الغطاء، نشر دار المهاجر، بيروت: ص73.
(
البقرة: 167.
(9) الزمر: 56 ـ 59.
(10) أصول الكافي، مصدر سابق: ج1، ص145، ح8.
(11) المصدر السابق: ج1، ص145، ح9.
والجنب هو القُرب، وقوله: على ما فرّطت في جنب الله، أي في قرب الله. انظر: لسان العرب مصدر سابق: ج1 ص275.
وقد كنّي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بالجنب لشدّة قربه من الله تعالى، وهذا هو المعنى الذي كان سيّدنا الأستاذ بصدد تعريفه وإيصاله، وهو أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الكمال المُوصل إلى الكمال المطلق بلا فاصلة، فهو جنب الله وفي جواره.
(12) ففي الصين ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ يُوجد زهاء مليار إنسان غير موحِّد (وثنيّ)، ونصف هذا العدد تجده في الهند، فضلاً عن الغالبية العظمى من سكّان اليابان والكوريتين وجملة من دول أفريقيا، فكلّ هؤلاء لم يخرجوا عن أصل فطرة التوحيد في خلقهم ولكنّهم اثّاقلوا إلى الأرض بعدما أُمروا بالنظر في أمور دينهم، ولعلّهم لم تصل إليهم المعارف كما ينبغي، والتي لا تخرج عن كونها منبّهات لذلك الأمر الفطري الذي غيّبه الركون إلى الدنيا والانغماس في ملذّاتها.